الإسلام والمسيحية من الجدل إلى الحوار

مقابلة مع أ د لويس صليبا

كيف نظر آباء الكنيسة الأوائل إلى الإسلام عندما وصلتهم أخباره؟

ظهر الإسلام في زمن الجيل الأخير من آباء الكنيسة. وأبرز ما وصلنا من مواقفهم وردود فعلهم على هذا التيّار الديني الجديد نصّ في غاية الأهمّية ليس بالنسبة إلى المسيحية وحسب، بل في تاريخ الإسلام أيضاً. فهو، على الأرجح، أقدم نصّ من خارج الإسلام أرّخ لهذا الدين الناشئ. إنّه الفصل الذي كتبه القدّيس يوحنا الدمشقي (676-749م) بعنوان الهرطقة المئة في كتابه الهرطقات. ويوحنا الدمشقي هو بإجماع الكنائس والباحثين آخر آباء الكنيسة. واختطّ خطّاً في الكنيسة لا تزال امتداداته حاضرة حتى اليوم، ألا وهو اعتبار الإسلام هرطقة (بدعة) من البِدَع المسيحيّة.

قمتُ بترجمة هذا النصّ المهمّ والمكتوب باليونانية القديمة لغة الأناجيل إلى العربية.

لكن ما توقّفتُ بالأكثر عنده هو حوارات يوحنا الدمشقي مع المسلمين ويوحنا الدمشقي عرفه المسلمون باسمه قبل أن يدخل الدير: منصور بن سرجون، وهو سليل بيت وجاهة وزعامة دمشقية عريقة. وجدّه هو من سلّم مفاتيح المدينة إلى الفاتحين المسلمين، وكان يوحنا وزيراً وخازناً في بلاط الخليفة الأموي، وكان نديماً ليزيد ابن الخليفة معاوية.

وما يهمّ في المسألة الحوارات التي دارت بين يوحنا الدمشقي والمسلمين، ونقل لنا شيئاً منها في كتابه. كان يطرح على محاوريه السؤال التالي:

هل المسيح كلمة الله؟ فيجيبونه بالطبع نعم، لأن القرآن ينصّ بوضوح على {إنما المسيح عيسى بن مريم رسولُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه} (النساء/171).

فيمضي يوحنا الدمشقي في أسئلته ويطرح عليهم السؤال التالي: وهل هو مخلوق؟ فيجيبون نعم. ولا بدّ أن نذكر هنا أن قانون الإيمان المسيحي “النؤمن”، المُقرّ في مجمع نيقيا 325م ينصّ حرفياً على أن : “المسيح مولود غير مخلوق”.

ويتابع الدمشقي نقاشه مع المسلمين، فيطرح عليهم السؤال التالي: وهل القرآن كلمة الله؟ فيجيبون نعم. فيردف سؤاله بآخر: وهل القرآن مخلوق؟ فيحارون في الجواب، إذا قالوا نعم، ردّ عليهم إذاً المسيح، وهو أيضاً كلمة الله، غير مخلوق.

ومن هذا السؤال الأحجية نشأت فرقة المعتزلة في العصر الأمويّ، وقالت إن القرآن مخلوق، وذلك ردّاً على طروحات يوحنا الدمشقي وعلى العقيدة المسيحية في المسيح: مولود غير مخلوق. وكردّة فعلٍ على المعتزلة نشأت الأشعرية وقالت، وبتأثير واضح من اللاهوت المسيحي، إن القرآن كلمة الله وغير مخلوق.

-هل تعني أن عقيدة أهل السنّة الأشعرية تعكس تأثراً مسيحيّاً ما؟

هذا ما توسّعتُ بدراسته في بحث آنفٍ لي نُشر في كتابي “حدّ الرِدّة ركن التكفير”. وفيه أستندُ إلى رواية لابن النديم (ت380 هـ) في الفهرست عن عبدالله بن محمّد بن كُلّاب (ت241هـ)، إمام أهل السنّة في زمانه، وأستاذ الأشعري، أو بالحري وكما يقول عنه ابن تيميّة في فتاويه: “إمام الأشعرية، وأقرب إلى السلف من الأشعري نفسه”

والمهمّ أن ابن النديم يذكر في النبذة التي خصّصها لابن كُلّاب في الفهرست: “عبدالله بن محمّد بن كُلّاب القطّان، وكان يقول إن كلام الله هو الله. قال أبو العبّاس البغوي دخلنا على فثيون النصراني، وكان في دار الروم الجانب الغربي، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كُلّاب، فقال رحم الله عبدالله، كان يجيئني فيجلس في تلك الزاوية، وأشار إلى ناحية من البيعة. وعنّي أخذ هذا القول”

واضح من الرواية أن ابن كُلّاب كان يزور فثيون في الكنيسة ويتحاور معه، وعنه أخذ مقولته الشهيرة: كلام الله هو الله، والتي يستعيدها الأشعري من بعده. ويمضي ابن النديم في روايته، فينقل عن فثيون قوله: “ولو عاش [ابن كُلّاب] لنصّرنا المسلمين”. ويضيف صاحب الفهرست: “وسأله محمد بن إسحق الطالقاني فقال ما تقول في المسيح، قال: ما يقوله أهل السنّة المسلمون في القرآن [كلمة الله غير مخلوق]”

وواضح من هذه الرواية أن التفاعل بين أئمّة الأشعرية واللاهوتيين المسيحيين كان قويّاً، ويفسّر انتقال عقيدة “كلمة الله غير مخلوق” من الجانب المسيحي إلى الطرف الأشعري.

هل كانت تُعقد مقارنات بين النبي محمد وآريوس؟ وهل تكلّموا عن الجذور الآريوسية أو الأبيونية أو النسطورية للإسلام؟

سبق أن أشرتُ إلى أن يوحنا الدمشقي افتتح خطّاً في المسيحية في مقاربة الإسلام وخلاصته أن الإسلام هرطقة مسيحيّة. وهو أساساً ذكَرَ الإسلام ضمن كتابه الشهير الهرطقات وفيه يتناول مختلف الهرطقات التي ظهرت في المسيحية ويفنّدها ويردّ عليها.

وجد يوحنا الدمشقي تشابهاً صارخاً بين طروحات الأريوسية في المسيح وبين ما يقوله القرآن عنه. أريوس نادى أن المسيح أي الابن ليس مساوياً للآب في الجوهر، وهو ما يقوله القرآن على طريقته.

وأتوقّف خصوصاً عند المقارنة بين مقولات نسطور وعقائد القرآن. وهو ما تبسّطتُ في عرضه وتحليله في كتابي “النساطرة والإسلام جدلية علاقة”. نسطور قال إن مريم ليست أمّ الله كما كانت تسمّيها أكثر الكنائس المسيحية. ويأتي القرآن ليردّد هذا الرفض النسطوري: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله} (المائدة/116).

وقد رأى الكثير من المستشرقين وعلى رأسهم زاهنر Zaehner أن موقف القرآن الرافض لأن تكون مريم أمّ الله يأتي كدعم مباشر للموقف النسطوري.

وموقف نسطوري آخر نرى في القرآن ترجيعاً لصداه ألا وهو رفض نسطور أن يكون الله قد تألّم ومات. ويقول لا يجوز أن يقال أن الله تألّم ومات، كما أبطل نسطور عبارة: “يا من صُلب لأجلنا”

وبالمقابل نرى في القرآن نكراناً لصلب المسيح وآلامه وموته.

وهذه كلّها عقائد مسيحية “هرطوقية” نجد تبنّياً لها في القرآن.

ما هو ملخّص رأي توما الأكويني في الإسلام؟

صحبتُ القديس توما الأكويني (1225-1274) ردحاً طويلاً من الزمن، كتبتُ فيه عنه ستّة كتب، وأعترف الآن أنّني لا زلتُ في أوّل حرف الألف من عمارته أو كاتدرائيّته الفلسفية واللاهوتيّة. ومن بين هذه الكتب الستّة كتابَين عن توما الأكويني والإسلام: “رسالة الأكويني في الردّ على المسلمين”، وتوما الأكويني والإسلام: بحوث في مصادره الإسلامية وردوده على الفلاسفة، وكلّ منهما في نحو 400ص. لذا يصعب عليّ أن ألخّص مقاربته للإسلام في دقائق معدودة. فأكتفي بذكر نقطتين في هذا المجال:

الأولى: لا يمكن أن نعزل موقف توما الأكويني عن عصره. وأبرز مصادر توما الأكويني المباشرة كانت مؤلّفات الأباتي بطرس الموقّر (1092-1156)

Abbé Pierre Le Vénérable

رئيس دير ورهبنة Cluny (1123-1156م) وهي أكبر الرهبنات في العصور الوسطى.

ماذا فعل بطرس الموقّر: كتب كتابَين عن الاسلام رجع إليهما الأكويني بالطبع، وقمتُ بتحليلهما في كتابي رسالة الأكويني في الردّ على المسلمين.

بيد أن مشروع بطرس الموقّر الأوّل والأبرز كان ترجمة القرآن إلى اللاتينية. كان الموقّر معارضاً للحروب الصليبية، ولم يشأ أن تطغى قرقعة السلاح وضجيج الحروب على صوت العقل والقلب. وفي سبيل تنفيذ مشروعه هذا سافر إلى إسبانيا/الأندلس، واستعان بعدد من المستعربين. والفكرة بحدّ ذاتها كانت فتحاً مبيناً في ذلك الزمن: أن تقومَ بنقل كتاب خصمك الديني بأمانة إلى لغتك.

وكانت الترجمة الأولى للقرآن إلى لغة غربية وقد أنجزت سنة 1143، واستُخدمت على مدى قرونٍ متوالية للتعرّف إلى الإسلام من كتابه المقدّس. وأفاد منها توما الأكويني بالطبع: وهي خطوة حاسمة نحو معرفة الآخر كما يعرف هو نفسه.

الثانية: النقطة الثانية في مقاربة توما الأكويني للإسلام هي ما توسّعتُ في عرضه وشرحه في كتابي الثاني: “توما الأكويني والإسلام”. إنها شعار القديس توما ومبدأه:

Tout ce qui est dit de vrai qui ce soit qui l’ai dit provient de l’Esprit Saint

كلّ ما قيل من حقّ أيّاً يكن قائله، متأتٍ هو من الروح القدس.

وهو مبدأ إنجيلي بامتياز. يقول المسيح في إنجيل يوحنّا في حديثه مع نيقوديموس: {إن الروح يهبّ حيث يشاء}. (يوحنا3/8)

واستناداً إلى هذا التعليم الإنجيلي الواضح هل يمكن لمسيحي أن ينكر أن في القرآن، أو غيره من الكتب، وحي؟!

ومبدأ توما الأكويني مستوحى هو من تعليم المسيح هذا. ومن هنا استند القديس توما إلى فلسفة أرسطو الوثني وكذلك إلى شروحات ابن سينا وابن رشد وابن ميمون: فلاسفة مسلمون ويهود كانوا من أبرز مصادره. وهذا بحدّ ذاته انفتاح غير مسبوق في زمنه.

ومن هنا كانت التوماويّة أي مدرسة القديس توما اللاهوتية والفلسفية رائدة الانفتاح في الكنيسة الكاثوليكية ورائدة خصوصاً في الحوار المسيحي الإسلامي.

كيف تعاملت المسيحية مع تهمة التحريف التي وجّهها المسلمون إلى المسيحيّة؟

إنها تهمة قديمة مهلهلة ورثّة تقاذفها اليهود والمسيحيّون، والمسيحيّون في ما بينهم كذلك.

والجواب الفيصل ليس في شهادة المسيحيين في أنفسهم وكتابهم، بل بالأحرى شهادة خصومهم من غير المسيحيين.

والشقّ الأوّل من السؤال يختصّ بالعهد القديم، أو التوراة كما يسمّيه القرآن: هل من فرقٍ أو اختلافٍ في النصّ بين التوراة التي يستخدمها اليهود، وتلك التي بين أيدي المسيحيين، وكلاهما يعتبرها كتاباً مقدّساً؟!

الجواب العلمي القاطع لا، فما من أي فرقٍ بين التوراة اليهودية والمسيحية. وجاءت اكتشافات قمران ونصوص الأسينيين لتؤكّد عموماً أن النص الواحد الذي بين أيدي اليهود والمسيحيين هو هو عينه اليوم ومنذ أيام ما قبل المسيح.

وماذا عن نصوص العهد الجديد؟

تناولتُ هذا الموضوع في بحثٍ موسّعٍ لي عن شهادة المؤرّخ يوسيفوس اليهودي في المسيح Flavium Testimonium المعاصر للمسيح، وغيرها من شهادات عديدة لمؤرّخين معاصرين رومان ويونان وفرس، إضافة إلى اكتشافات أركيولوجية في فلسطين تعود إلى زمن المسيح وكلّها تتطابق مع روايات الإنجيل عن المسيح ممّا لا يتّسع المجال لعرضه. فالشهادات من خارج العهد الجديد، ومن خارج المسيحية، والمعاصرة للمسيح أو لنشأة المسيحية تأتي بمجملها لتؤكّد ما جاء في العهد الجديد. فصلب المسيح، حدثاً تاريخيّاً، وثّقه المؤرّخون من شهادة يوسيفوس المؤرّخ اليهودي المعاصر لهذا الحدث، والذي وثّقه في تاريخه، ومن مؤرّخين غير مسيحيين آخرين. أمثال تاسيتس (55-120م) كبير المؤرّخين الرومان وصاحب الحوليّات وغيره.

وإضافة إلى ذلك كلّه فقد وصلتنا مخطوطات للأناجيل من القرن الأوّل، وهي لا تظهر أية فروقاتٍ تسمح بالحديث عن أيّ تحريف.

ومن هنا فالردّ المسيحي على هذه الشبهة القديمة الرثّة والمتآكلة كان ولا يزال ردّاً علمياً وتاريخيّاً قاطعاً.

ويبقى السؤال الأبرز ماذا يعني التحريف الذي تحدّث عنه القرآن؟!

هل ترى أن للمسيح وضعاً مميّزاً عن سائر الأنبياء في التصوّر القرآني؟

بالطبع الوضع المميّز يشمل أولاً أمّه مريم. فهي المرأة الوحيدة التي يسمّيها القرآن بالاسم. يتحدّث القرآن عن نساء فاضلات عديدات: بيد أنّه لا يسمّي منهن سوى مريم، ويخصّها بسورة كاملة، وهذا لوحده تكريمٌ كبير لها.

وهي التي نذرت صوماً وصمتاً، وهي البتول التي ولدت نبيّاً وبقيت عذراء بتول، وقد دافع القرآن عن مريم وبتوليّتها، وردّ على كلّ افتراءات اليهود عليها، وهذا كلّه تمييز لها عن سائر نساء العالمين.

-المسيح هو آدم الجديد: ولد من عذراء بتول بفعلٍ إلهي لا بزرعٍ بشري.

وهو كلمة الله والذي تكلّم في المهدِ ودافع عن أمّه. والمسيح هو كلمة الله وروح الله كما سبق ونقلنا عن آية سورة النساء/171، وهو تعبير رائع وشفّاف، فالكلمة تعبّر عن معنى الله، والروح هي جوهر الله، وهو تكريم خصّ به القرآن المسيح دون سائر الأنبياء.

وقد نوّه المجمع الفاتيكاني الثاني في بيانه في علاقات الكنيسة بالديانات غير المسيحية (28/11/1965) بكلّ هذه الميّزات والفضائل التي خصّ القرآن بها المسيح وأمّه. وهي بالطبع تصلح أساساً للقاءٍ ولحوارٍ مسيحي إسلامي بنّاء ومثمر.

هل يمكن أن نعتبر القرآن في جزئه المكّي إنجيلاً خامساً يتبنّى رؤيةً للمسيحية توافق الرؤية الرسمية في مواضع وتخالفها في مواضع أخرى؟

سؤالك هذا يحمل مفارقة وتناقضاً ظاهراً. فالقرآن لا يتحدّث عن الأناجيل الأربعة كما يفعل المسيحيّون اليوم، بل عن “الإنجيل” أي بالصيغة التعريفية المفردة.

والسؤال البارز لماذا؟

القرآن لم يعرف سوى الإنجيل الذي كان منتشراً بين نصارى الجزيرة وسائر نصارى المشرق يومها، ولا سيما السريان منهم.

إنه الإنجيل الرباعي أو دياتسّارون ططيانس (120-185)، الموضوع 160م، وهو يوحّد الأناجيل القانونيّة الأربعة متى ومرقس ولوقا ويوحنا في نصّ واحد. وعرف بالإنجيل بحسب العبرانيين. وأسّس ططيانس جماعة مسيحية متشدّدة كانت تحرّم الخمر.

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي حديثاً عن سيّدتنا عائشة، ر، تذكر فيه أن “القسّ ورقة بن نوفل، ابن عمّ السيدة خديجة، ر، كان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب”، ويُختم الحديث بقول عائشة: “ثم لم ينشب أن توفّي ورقة وفتر الوحي”!!

توقّف الكثير من المستشرقين والباحثين مطوّلاً عند هذا الحديث اللافت، والذي يتكرّر في معظم المصادر الإسلامية: صحيح مسلم، سيرة ابن إسحاق وابن هشام، تاريخ الطبري، وغيرها. وقد عمدتُ إلى تحليل دراساتهم وآرائهم في كتابي الإسلام في مرآة الاستشراق المسيحي.

هل كان القس ورقة بن نوفل يعدّ ترجمة عربية للإنجيل الرباعي أو الإنجيل بحسب العبرانيين كما كان يعرف يومها؟ وهل عرف العرب بالتالي في جاهليّتهم نصّاً عربياً للإنجيل بحسب العبرانيين؟

وما علاقة القسّ بالوحي، ولماذا فتر الوحي بمجرّد غيابه عن الساحة ووفاته؟

أسئلةٌ كبرى، تناولتُها وحلّلتها في أكثر من مئة صفحة من كتابي المذكور، ويصعب عرض كلّ ذلك في عجالةٍ كهذه. والفرضيّات عديدة ومختلفة، وفي غياب الوثائق يصعب فصل الخطاب في هذه المسألة الشاقّة والشيّقة في آن.

كيف استُخدم اللاهوت الدفاعي في الصراع بين الإسلام والمسيحية؟

الأمثلة على ذلك عديدة، وما ذكرناه عن القدّيسَين يوحنا الدمشقي وتوما الأكويني نماذج لاستخدام اللاهوت الدفاعي. لكن ما يهمّني خصوصاً، وما توقّفتُ عنده في دراساتي، ولا سيما في كتابي “عنف الأديان الإبراهيمية حتمية أم خيار”، هو التحوّل الكبير في الكنيسة من النهج الدفاعي، والدفاع عن تاريخها إلى النهج التفهّمي للآخر والنقد الذاتي لتاريخها.

وهو نهجٌ باشر به البابا القدّيس يوحنا الثالث والعشرون، لا سيما عندما رفع شعاره الشهير: “لنكفّ عن البحث عمَّن كان مخطئاً وعمّن كان محقّاً، لكن فلنتصالح”.

وكان ذلك بداية التحوّل الكبير، وخطوة أولى حاسمة في مسيرة لا تزال مستمرّة ومتواصلة إلى اليوم مع البابوات الذين خلفوا يوحنا الثالث والعشرين.

ما هي أشهر لحظات التقارب ومحاولة إيجاد مشتركات بين الديانتَين الإبراهيميّتَين؟

-البابا يوحنا الثالث والعشرون أصدر قراراً 18/7/1959 بإلغاء الصلاة المحقّرة للمسلمين: “أنت ملك جميع من تلفّهم حتى الآن ظلمات الوثنية والإسلام”

-بولس السادس في 29/9/1963: طلب الغفران عن أخطاء الماضي: “إذا كان هناك خطأ ما يجب أن يُنسب إلينا، فنحن نطلب بسبب ذلك الغفران”

-بيان في علاقات الكنيسة بالديانات غير المسيحية الصادر عن المجمع الفاتيكاني الثاني في 28/11/1965، وممّا جاء فيه: “وتنظر الكنيسة أيضاً بتقديرٍ إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحيّ القيوم الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض وكلّم الناس.

وإنّهم على كونهم لا يعترفون بيسوع إلهاً، يكرّمونه نبياً ويكرّمون أمّه العذراء مريم مبتهلين إليها أحياناً بإيمان”

-البابا القديس يوحنا بولس الثاني شجب التحالف السابق بين الصليب والسيف في 12/10/1984، ودعا إلى استغفار متبادل بين المسيحيين والمسلمين لا سيما في خطابه إلى الشبّان المسلمين في المغرب في 19/8/1985، قدّمت نصّ هذا الخطاب البالغ الأهمّية وتحليلاً له في كتابي الإسلام في مرآة الاستشراق المسيحي.

-وأخيراً وثيقة الأخوّة الإنسانية التي وقّعها البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيّب في أبو ظبي في 4/2/1919، وقد قدّمتُ تحليلاً لها في كتابٍ سيصدر قريباً.«»«»([1])

[1]