“إسرائيل بين العلمانية – والدينية” / محمد المشهداني

ظهرت الأيديولوجيات العلمانية اليهودية لأول مرة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ووصلت إلى ذروة نفوذها في فترة ما بين الحربين العالميتين.
ويشكل اليهود المتدينون 10% فقط من مجموع سكان إسرائيل، تبين الدراسات الديموغرافية أنه في العام 2030، سيكون هناك 51% من كل سكان الكيان الصهيوني  يهود متدينون أي 65% من مجموع اليهود ، ترتبط نسبة زيادة هؤلاء المتدينين بشكل كبير بالتغيرات الديموغرافية التي يشهدها الكيان ، أي أن الزيادة ناجمة عن إختلاف نسب التكاثر الطبيعي بين المتدينين اليهود، وخصوصًا الحريديم ، وبين العلمانيين.
وعلى خلاف ما قد يعتمده الكثيرون، لم تكن فكرة إنشاء إسرائيل دينية قط ،فالصهاينة الأوائل من حركة الهاسكالا التنويرية كانوا علمانيون تماما ،وأما ثيودور هرتزل الأب الروحي للحركة الصهوينة فقد كان  يكره الحاخامات والأساطير الدينية اليهودية التي كان يعتبرها تخلفا وظلامية ،لذلك أعتبره أتباعه مسيحا علمانيا يجمع أشتات اليهود من أنحاء العالم ويحميمهم من الاضطهاد، بدلا من إنتظار عناية السماء ووعود آخر الزمان، التي قد لا تأتي أبدا.
وكان أول ظهور للأيديولوجية اليهودية العلمانية في أواخر القرن التاسع عشر، في أوروبا الشرقية. أستمر هؤلاء بتعريف أنفسهم كيهود ولكنهم تخلوا عن كافة مميزات اليهودية الدينية. على عكس اليهود الإصلاحيين الجدد، في أوروبا الغربية والوسطى، لم يرغب هؤلاء اليهود بتغيير طقوس الكنيس، حيث أنهم رفضوا الكنيس تمامًا، لأنه لا يعنيهم ولا يمثلهم. رفض اليهود العلمانيون السلطة الحاخامية وإعتبروا أن الهلاخا لا تمت لهم بصلة. حتى أن بعضهم – خصوصاً المرتبطين بالحركات الإشتراكية اليهودية الجديدة – رأوا في التقاليد  اليهودية والسلطة الحاخامية مؤامرة تأريخية لقمع الطبقات العاملة اليهودية. تخلى بعضهم عن اليهودية لهذه الأسباب ,ولكن جزءا كبيرا منهم رأوا بأنفسهم يهودا ولكنهم رفضوا أي علاقة باليهودية كدين. ولدت الأيديولوجية العلمانية من أوساط هؤلاء اليهود الذين يميلون إلى التركيز على الجوانب القومية والثقافية للحياة اليهودية.
ويقول الدكتور فوزي البدوي أستاذ الدراسات اليهودية :
لم يتصور ثيودور هرتزل أن هذه الدولة التي يبحث عنها والتي يتحدث عنها هي دولة ذات طابع ديني.
أختارت الحركة الصهيونية فلسطين لدواع براغماتية محضة ,بدلا من دول أخرى كانت مطروحة مثل الأرجنتين وأوغندا و مدغشقر  وغيرها.. والهدف هو إعطاء شرعية دينية وتأريخية لهذا المشروع الأستعماري ,وكي يكون هناك أدعاء ,بتنا نسمع الكثير اليوم عنه  أنها عودة لأرض الأجداد .سيبدأ التحرك الفعلي لأصدقاء ثيودور هرتزل إثر اغتيال قيصر روسيا ألكسندر الثاني ,حينها سينتقل أول فوج يهودي يضم من الروس  والبولنديون من الكارهين الديانة اليهودية وتقاليدها والخانقين والحاقدين  على سلطة الحاخامات الغيتوهات ,وعلى سوء معاملة الدول الأوروبية إلى الأراضي العربية أعتبر الصهاينة العلمانيون أن الأنقلاب على اليهودية بوصفها ديانة ستشكل باباً  لثورة  كبرى تضع اليهود في قلب الحدث بالقتال والسياسة والإقتصاد لا بالصلوات  الأرثوذكسية الصهيونية ..أنها أشبه بمسيانية كاذبة في القدر وتصف بالكفر والإلحاد ،وبين الطرفين جاء الرجل الأهم هو نبي الصهيونية وأحكامها الأكبر  تسفي يهوذا كوك وهو الأبرز والأهم الذي رأى في مشروع ثيودور هرتزل ووعد بلفور وتأسيس الكيان الصهيوني ،معجزات سماوية تنصف اليهود تتدخل لحمايتهم بعد عقود من الخذلان الإلهي!!.
و تسفي يهوذا كوك هو المؤسس لتيار يجمع الصهوينة بوصفها فكرة ،والتدين بوصفه عقيدة. مكنت نظرة الحاخام الصهيوني المبكرة ورغبته في إيجاد مكان للمتدينين وسط إسرائيل وفي صعود الأحزاب والتيارات الدينية حتى المخالفه له، فصار بذلك الحاخامات وحدهم المفسرين الشريعة اليهودية وأصحاب الحل والعقد في المجتمع المتدين ،بل وأحيانا في غير المتدينين أيضا.

ظهرت الأختلافات العميقة بين المعسكرات والبرامج والأطروحات  الفكرية الصهوينة واليهودية  منذ بداية تأسيس الكيان الصهيوني المحتل، فكان اليسار بقيادة دايفيد بن غوريون واليمين بقيادة زئيف فلاديمير جابو تنسكي سيطر الأشكناز العلمانيون و اليساريون على الحكم في العقود الأولى لنشأة الكيان الإسرائيلي المحتل الغاصب  ،لكن الأمر لم يدم طويلا .فقد جاء الحدث الذي سوف يغير كل شي وهو عدوان حزيران 1967واحتلال سيناء المصرية والجولان السورية والضفة الغربية من فلسطين ..أعتبر الصهاينة من المتدينيين والعلمانيين نكسة العرب بمنزلة معجزة ربانية من السماء، تعني الخلاص المؤكد وتأييد الرب لإسرائيل. بعدها زادت نبرة وصوت  التدين بعد هذه الحرب،  وزاد الإيمان بالأسطورة الدينية الصهوينة ،حتى وسط اليسار العلماني ،وأصبح الشباب اليهودي والصهيوني مقتنعا أكثر بأنه جند الله، الذي حل في أرضه المقدسة للدفاع عن شعبه المختار. خرجت الصهوينة الدينية بعد هذه الصحوة العقدية من عباءة وظل
حزب العمال اليسار _ العلماني ووضعت يدها في يد حزب الليكود _ اليميني المتطرف الذي كان يبحث عن مكان وسط دائرة الحكم فجاء اليوم المنتظر بعد هذا التحالف اليميني المتطرف في إنتخابات العام 1977. بقيادة مناحيم بيغين ظلت المنافسه السياسية بين اليمين واليسار حتى بداية الآلفية الجديدة حينها وضعت نتائج الإنتخابات في العام 2001. الشاهد الأخير على نهاية اليسار العلماني بمعناه التقليدي و الكلاسيكي ،وسلمت إسرائيل ذاتها في إختيار تام وكامل بيد اليمين القومي والديني، بدءا التيار الديني الذي تتقدمه الصهيونية الدينية في تأدية  أدوار أكبر من تلك التي أنيطت له .
في البداية دخل المتشددون المتطرفون مضمار السياسة  وأضحوا رقما صعبا،  بعد أن عاشوا لعقود على الهامش ،وفق هذا الواقع تغيرت الطبقة الحاكمة جذريا ،فظهر مصطلح المتشددين المستعمرين الجدد، لوصف هذا التيار القومي اليهودي _ الصهيوني الذي أخرج المستعمرين المؤسسين وأفكارهم من المشهد السياسي الإسرائيلي، حيث حضر الصهاينة المتدينين في عدد من الحكومات التي خلت من أي وجود لليسار منذ العام 2015. وكانت الجائزة الكبرى لهذا الحضور حكومة العدو بنيامين نتنياهو الأخيرة ،التي ضمت بجانب حزب الليكود وحزب البيت اليهودي الذي يتزعمه المتطرف سموتريش وحزب العظمة اليهودية الذي يقوده الصهيوني المتدين المتطرف إيتمار بن غفير . وبجانب السياسة حضر هذا التيار الديني في الجيش الإسرائيلي.
أن الصهاينة المتدينين وعكس الحاسيديم الذين يرفضون التجنيد يتسابقون للخدمة ،بوصفهم جنود الله مدفوعين بالفتاوى والتوجيهات الدينية من الحاخامات وبالحماس لنشر فكر الأيديولوجية المتدينة في جميع مفاصل المؤسسة العسكرية، وبالرغبة الكبيرة في مواجهة ما يسمونه ب أعداد إسرائيل عكس الشباب اليساري والعلماني ،الذي بدا يعقد كل دوافعة للقتال في حرب لن تنتهي ولا يرى أنها تستحق العناءة والمتاعب.

قاد صعود المتدينين إجتماعيا وسياسيا وعسكريا وإقتصاديا ..إسرائيل  في الداخل إلى خلافات عميقة مع حلفائها في الخارج ،خصوصا بعد أن ابدى  بنيامين نتنياهو رغبته في تحقيق مكاسب سياسية ،بالتحالف مع من كانوا أعداء الماضي ،  وأيا كان الثمن إنفجرت المواجهات المباشرة عبر مظاهرات ماراثونية ضد مشروع بيبي بتقليص صلاحيات المحكمة العليا ،وإعادة هيكلة الجهاز القضائي.
إستفز المشروع معارضيه ومنافسيه وإعتبروه  طعنه في ظهر الديمقراطية الإسرائيلية الكاذبة القاتلة  ،ورغبة من اليمين المتطرف في فرض أجندته على الدولة والمجتمع، وسعيا من بنيامين نتنياهو بالتعليق يأتي قشة تبقية في السلطة وتمنع إتهامات الفساد ،التي تطارده من الوصول إليه والزج به في السجون ،أما بحلول عملية الطوفان الأقصى المباركة حاولت حكومة  نتنياهو تحشيد الدعم لحلفائها وخصومها للضرب بالحديد والنار ،ومواجهة فصائل المقاومة الفلسطينية، وهو ما حدث في البداية لكن الإخفاق غير المسبوق في يوم 7 من شهر أكتوبر العام 2023. وعدم تحقيق جيش العدو الإسرائيلي لأي نجاحات عسكرية ملموسة. جعل مؤيديه المؤسسين ينفضون من حوله، ذلك لأن فشله لم يكن عسكريا وسياسيا فقط وإقتصاديا أيضا ،وكل هذه الإخفاقات جعلت المتظاهرين   يعودون إلى أمام منزل  نتنياهو مرة تلو الأخرى، مطالبين إياه بالتنحي ومتهمين حكومته بالفشل الذريع، وعدم الكفاءة. اما اليسار والعلمانية فقد  بدأوا يستفيقون من تقويض
نتنياهو، السلام وإن الأمان لا يمكن أن يتحقق للإسرائيليين  إلا أن يحقق للفلسطينيين والعرب ذاتهم قبل وخلال وبعد النكبة والنكسة وبين كل من اليمين المتطرف واليسار العلماني تبقى آلة الدمار والهمجية والإرعاب والأحتلال الإسرائيلي _ الصهيوني قائما على أساس واحد وهو الإحتلال وإبادة السكان الأصليون العرب.
وهكذا، فإن إسرائيل هذه التي تعاند ذاتها بين الدين والعلمانية، وبين الأسطورة والحداثة، والماضي والمستقبل، هي ذاتها إسرائيل التي تعاند عملية التسوية والأعتراف وتأمن بالفصل العنصري والديني  بالآخر الفلسطيني. المفارقة، أيضا، أن ثمة ما هو إيجابي في هذا الأمر، إذ كون إسرائيل باتت مكشوفة، كدولة دينية وأصولية متطرفة في مبررات قيامها وفي سياساتها والكثير من تشريعاتها التي تتميز بالعنصرية والنازية _ الفاشية المتمحورة في عقيدة  الصهيونية الفكرية والدينية.

محمد المشهداني _ الشراع