لماذا يدورُ كلَّ شيء؟

بِقَلَم رئيسة التّحرير
تدورُ عقولَنا دون نهاية، تَدورُ وتلفُّ حولَ شيء أو حَوْلَ معنى؟
تدورُ عقولُنا، نترقّبُ نُحرِّر نفوسنا من الموبقاتِ بأشكالِها وأنواعِها، لِنَرى الماضي والمستقبل، كأنَّهُما امتدادٌ ذهنيٌ، يمثّلُ مرحلةَ بدايةِ اللانهائيّة.أجلسُ في غُرفتي، وأغلِقُ عليّ بابِها، أحاولُ أن أغمِضَ عَيْنَيّ، لا لكي أنامَ، بل لأُوَفِّرَ لِنَفسي الهدوء .
اللّيلُ طَويلٌ طَويل :
مفروشٌ أمامي كلوحةٍ، أرسمُ فوقَها ثمّ أمْحو ثُمّ أرسُمُ، وأعبثُ، وفي يدي ذلكَ القفلُ السِحريُّ، أُحاوِلُ أن أعثُرَ على الأرقامِ التي تفتَحهُ؟ قِفلٌ مُغْلَقٌ عَلى بوابةِ كلِّ قلبٍ، يفتحُه مِفتاحٌ واحِدٌ: الحِبُّ الفِطريُّ النَّقيُّ، الَّذي تلتقِطَهُ جوارحُنا قبلَ عقولِنا.
الحُبُّ في مُجتَمِعنا، عاطفةٌ مُعقّدةٌ لأنَّ مُجتمعنا مُعَقّدٌ، كُلُّ شَيءٍ في مُجتمعِنا العَصريّ، حتّى الكَلام نِصفُه يضيعُ في التكلُّفِ والمجُاملات، ونِصفُهُ الآخّرُ يَضيعُ في الأكاذيبِ والمُماحكَة. النتيجةُ، أنّ عِلاقَتُنا ليسَت طبيعِيّةً، حُبُّنا وكراهيَّتُنا ليسّا طبيعيَّيْنِ .

مَنْ لَمْ يُعِشِ الحُبّ بتدرّجاته :
مَنْ لم يكتوِ بنيرانِهِ و هو يُقَدِّمُ نَفسَهُ قُربانًا لهُ، مُتقَبَّلاً كلِّ ألوانِ مُعاناتهِ، لوعتَهُ، لهفتَهُ، عذابَهُ وانتظاراتَهُ: لا يستطيع أن يفهمَ الحبّ. فالمحبوبُ يُعطي من روحِهِ لِتصقَلَ محبّتَه .
الحبُّ: إحساسٌ داخليٌّ فِكريٌّ. يَنمو بتلقائيّةٍ دونَ مؤثّراتٍ خارجيّةٍ أو افتعالٍ. يغمرُ المُحِبَيْنِ فرحٌ عميقٌ لمجرّدِ تَلاقيهِما، لا حاجَةَ إلى الكَلام.
تلكَ المَشاعِرُ أعمَقُ وأشْمَلُ من لحظاتِ الجَسد. هو تعارفٌ داخِلِيٌ وتَلاقي روحَيْن تعرّت كلُّ منهُما على حقيقتِها بلا كلفةٍ ولا أقنِعة. يَلِفُّ الحَبيبَيْنِ لذَّةٌ هي مَزيجٌ من الدَفءِ، والتَخديرِ، والتَنميلِ. ما يَبعَثُ على الاستِرخاءِ، والانتشاءِ، يجعلُ النَّظراتِ شَبيهةً بالاحتِضانِ.
وكيفَ للإنسان ألا يُعطي الحُبَّ أهميَّتَهُ، وهو ابنُ الحبُّ البِكر؟ الحُبُّ، خالٍ من الغَرض يُعطي ولا يُطلبُ. يُعطي ذاتَ نفسِهِ لِحَبيبهِ، يَحمِلُ همومَهُ ويتعذّبُ لِعَذابِهِ، يقلق لقلقِهِ، يفرَحُ لفرحِه، يملأهُ إلى جوارِ الحَبيبِ الاكتفاءُ، السُّكون والأمان… عاجِزٌ عن العَيْشِ بعيدًا عنه، مربوطًا به،كلّ دُنياهُ تدورُ في فلكِهِ.المحبَّةُ: دربُها مُتفرّعٌ من المُحيط ِالواسِعِ الشّاسِع، المُترامي الشَّطآنِ. يغوصُ المُحِبُّ في خِضمِّه أو يقومُ نحوَ شاطئ الأمانِ لئِلاّ يَغرقَ في يَمِّه أو يَتيهَ في عرضِه. يغرقُ في يَمِّهِ من يكبِّلَ نفسَه بأصفادِ «الأَنا» و «الكبرياء» ويَتيهُ في عرضِه من يَبْلُغ مُنْتَصفَ الطّريقِ، ويفقدُ نفسَهُ في متاهاتٍ وسقطاتٍ فارغةٍ وشكليّاتٍ عَميقةٍ .أمّا مَن يُبْحِرُ سموُّ ذاكَ اليمِّ، فَهُو من لم تَغرِهِ أهواءُ الجسدانيّات، تقودُهُ إيحاءاتٌ خَيِّرَةٌ إلى برِّ الأمان.
المحبَّةُ عَطاءٌ من الله:
فلنُعطِ كما الشَّمسُ إلى كلِّ الأرض. فلنُعطِ كما الزّهرةُ تُعطي رحيقَها إلى الفَراشَةِ.
فلنُعطِ كما الأُمُّ تُعطي فلذةَ كَبْدَها، محبَّتَها وحَنانَها.
المَحبَّةُ: قُل، الفَجرُ، إذا أخذتَ منهُ لا يَنقُص، وإذا أَضَفْتَ إليهِ لا يَزيد.
المَحبَّةُ: رمزُ الطّهارةِ والخُلود. يتسرَّبُ إلى معبدِ القَلبِ خاشِعًا. يُخرجُ من الفَمِ قطراتِ ندى تُدغدِغُ اللّباب لاسمه نُطَأطئُ الرّأسَ خاشِعين .
المَحبَّةُ: تُرَفرِفُ العَيْنُ بدموعِ الغِبْطَةِ. فيها ينبلِجُ النّورُ وحَوْلَها تَحومُ طُيورُ السَنا… عَطاءٌ روحِيٌ، يستَقي من ينابيعِ الطّهارةِ والصّفاءِ، يروي الكيان ويُنيرُ ظُلماتِهِ .
بِمُتابَعَةِ النَّفسَ مَسارَها:
مرتديةً وِشاحَ المَحبَّةِ، ورداءَ الإيمانِ، تتخطّى حَواجِزَ الزَّمانِ و المكانِ، نحوَ السدرَةِ المنشودَةِ الّتي يتوقَ إليها كلُّ عارفٍ مُؤمِنٍ. تغمُرُه الطّمَأنينَةُ، ولو قِيْدَ إلى المِشْنِقَة أو السّجنِ لا يُبالي، لأنَّهُ مؤمِنٌ أنّ فناءَ المَوْتِ لن يَطالَ جوْهَرَه.
تلكَ التَّجلّياتُ، راحَت تَدورُ في رأسي، حتّى بدأت تدورُ دوارَ النَّوْمِ، فأَطفأتُ المَصباح.

بِتمحُّصي في المَراجع العِلميَّةِ:
تغيّرَ طعمُ الحياة في فمي. النَسيمُ ليسَ نَسيمًا يَستحِمُّ في الضَّوءِ ويُشعْشِعُ في روحي، لكنَّهُ، نيتروجين وأوكسجين وثاني أكسيد الكربون، هليوم، أرجوان بُخار، ذرّاتٌ معلَّقَةٌ، وأشِعَةٌ كونيّة. البَحْرُ، أملاحُ صوديوم، بوتاسيوم، مغنِزيوم، وكاليسيوم، ورغيفَ الخُبزِ، ليسَ طرِيًّا شهيًّا بل موادُ كربوإيدراتيّة، وبروتينيّة، دهنيّات، وفيتامينات.قصائد شكسبير الخالِدَة، كانت في ذِهنهِ قبل أن يكتبَها، أحماضًا وقلويات؟ القبلَةُ المُمتِعَةُ، ليسَت سِوى تدفُّق هَرمونات في الشّرايّين، وإفرازاتٍ حَمضيّةٍ عندَ أطرافِ الأعصاب.
لَوَعةُ العِشقِ: إرتفاعٌ في نسبةِ التستوستيرون والإستروجين: فورانٌ وغَليانٌ وحَركةٌ في داخلِ الوجودِ كلّه.شيءٌ لا يُطاق! أَلقَيتُ بالمراجع العِلميّة جانِبًا وبحثْتُ في تأمُّلاتي الّتي أضاءَت لى: أنّ العِلاقاتِ الإنسانِيَّةَ تطغى عليها المَشاعرِ، لكنْ أن لُقِّحتْ بالفِكر انتظمَتْ وظهَرت أكثرَ منطقيَّةٌ ووضوحًا. كما أنّ العِلاقاتِ الفكرية الّتي يطغى عَليها التجرُّد إن تشرَّبت بعضًا من المَشاعِرِ تُضحى أكثر رِقَّةً. فالرهافَةُ الّتي تضيفُها المَشاعِر عَلى الفِكرِ، تَمنحَهُ شَفافيّةً، وهَذه بِدورِها تعكِسُ إلى جانبِ الرِقَّةِ، الدِقَّةَ في التَّميِّيز والتّحليل.
من هُنا، نستنتِجُ: أنّ عملّ الفِكرَ لا ينفَصِلُ عن عملِ المشاعِرِ، على سبيلِ المثالِ: أوَّلاً يَفْرضَ التَجاذُبُ الفِطْريُّ بينَ الرّجلُ والمرأة، تَبادُلَ أَطرافِ الحَديثِ الّذي يُمهِّدُ إلى التَّفاعُلِ المعمَّقِ بَيْنَ الطَّرفَيْنِ؟
مَهما كُتِبَ عن ذلكَ التّجاذُبَ، من قصائدَ تُضاهي رِقَّتها، ومن روائِعَ تُخلَّدُ أمجادهُ، وأناشيدَ تُحيّي الوِجدان، فجميعُها لَيسَت إلاّ طَرطَشاتٍ من شَلاّلاتِ عَطاءاتِهِ المُتَجدِّدة. لكن، إنْ لَمْ نَتَفاعَلُ حَنينًا، لَهفَةً ومعاناةً إلى حدِّ اللَّوعةِ في نفسِ العاشِق، نلبثُ كلَوْحَةٍ جامدةٍ نتقُصُها حركَةُ الحَياة .
هُناكَ نوعٌ مِنَ التَجاذُب:
في أغلبهِ معركةً حاميةً بينَ أدمغَةٍ أنانِيَّةٍ، لا بينَ قلوبٍ صافيةٍ معطاءَةٍ، بل تمتّعٌ أنانيٌّ ينتحِلُ صِفَةَ الحُبّ، الّذي يُعَبِّرُ عن عقدٍ نفسيَّةٍ: مُركب نَقْصٍ، أو عظَمةٍ، خضوعٌ، أو ساديَّةٌ، أو حالاتٌ من الشَّبَقِ الجِنْسيّ المَريض.
في تلك الحالاتِ: تنتابُنا عاطِفةٌ يَغشوها صِراعُ الأفرادِ والطّبقاتِ، وإفرازتٌ لعقدٍ نفسيَّةٍ تنضجُ بالمُرِّ والعَلقَم. ما يُدخِل المُنجذبَيْن، في سباقٍ غيرَ مُتكافئٍ شعارُ كلٌّ مِنهما: أُريدُ أن أنتصِر !
هُنا يُطْرَحُ تَساؤلٌ:
تُراها المشاعِرُ، كامنةٌ تَحتَ رُكامِ العُقَدِ والانحرافات؟ مثيلَ الماءِ في باطنِ الأرضِ الَّتي بنكشها تفجِرُ يَنبوعًا عذبًا لا يًنضبُ؟
أم تُراها، تفترضُ أن نتغيَّرَ إلى درجةٍ من الطّهارةِ الدّاخِلِيَّةُ، فنغسِلُ أوّلاً بأَوَّلِ من سُمومِ ورواسِبَ ورثناها أو اكتسبناها؟

دورُ المشاعرِ الإيجابيَة:
لا يقِلُّ أهميّةً عن دورِ الفِكرِ، انطلاقًا من رؤيةٍ شمولِيّةٍ لواقِع الكِيان الإنساني في خوضه مسيرَةَ الحياة المشحونةِ بالمعاناةِ وشتّى أنواع التّجارب .
تلك المشاعِرُ لا نتعلمها إلا عَبرَ الفِكِر الذي يتلازم مع رقَّةِ و شفافيَّةِ المشاعرِ الّذي يتعمّقُ و يتمدّدُ مع اكتسابِ الخُبراتِ في مختبرِ الحَياةِ اليَوميّةِ .
الفِكرُ مدرسةٌ للتعلّمِ، والمشاعِرُ حقلُ التّطبيق في إكمالِ النُقصانِ وتصحيحِ اﻷخطاءِ الّتي تَنجُمُ عن التّطبيقِ، بهدفِ التَناغُمِ والانتشاءِ فِكرًا وعاطفةً !إذًا، لا غِنى عن العاطفةِ لِتَغذيَةِ المشاعِر  وتنظيمِها تهذيبِها، وتثقيفِها، والارتقاءِ بها.
هناكَ مدارسُ في التَّأمُلِ تطلبُ أن نسرَحَ يَومِيًّا لِمُدَةِ ثلاثِ دقائق. الغرض هو التناغُم مع نُفوسِنا، وعبرَهامع الكَوْن.
هذه المدارِسُ التَأمُّلِيَّة تَطلبُ كَسْرَ «الدّائِرَةِ» اليَوميِّةِ.
نَحن نُشبِه الى حَدٍّ كَبيرٍ الأرضَ الّتي نَعيشُ عَلَيها، فَهِيَ تَدورُ حَولَ نَفْسها، وأَيضًا حَوْلَ الشَمسِ، كذلك تفعلُ كلُّ الكَواكِبِ وكُلُّ المَجموعَةِ الشَّمسيَّةِ، الّتي تَدورُ حَولَ الشَّمس: تدورُ ضِمنَ ملايّين المَلايّين من المَجموعاتِ الكَوْنيّةِ حَوْلَ نَفْسِها وحَوْلَ المصدَر.

مِنْ بَيْنَ تلكَ المدارس:
مدرَسةُ (الانسِجامُ الإنسانيّ للمُتَصوِّفُ الرّوسيّ)
«جورجيف»:
أنشأها في باريس، هدفُها تنسيقُ القوى الدّاخليّة في الإنسان. هذا التّنسيقُ يتمّ بعدَ التدرُّب عليهِ طويلاً، فيجلسُ الواحِد هادِئًا ويَغمضُ عينيْهِ مركِّزًا انتباهَهُ إلى أعماقهِ.
جورجيف: يقومُ بتدريبِ طلابِهِ على الصَّومِ والتّركيز، يدرّبُهم للسّيطرة على نفوسِهم، يهديهم إلى ينابيعِ القُوّهِ واستخراجِ الكنوزِ المدفونةِ. مُعلنّا: «لا تزالُ حالاتُ الحُبِّ هي الأجدى، سُؤال المُحبين كيف يركّزُ الواحِد منهُم تفكيره في الآخر؟ وكيفَ أنّ معظمِهم يستطيعُ الإحاطَةَ بما يفعلهُ الآخر؟».
وَيسترسلُ جورجيف: «الطّريقُ إلى تحريكِ القوى الكامِنَةِ في الإنسان هو التّركيزِ والتعوُّدِ على ذلك عن طريقِ بلوغِ النَّقاوَة. فالّذي تهدمهُ الكراهيةُ يبنيهِ الحبُّ. والّذي تَهدمهُ المَصانِعُ تُشَيِّدُهُ المَعابِدُ، والّذي تفسدُه المادّة يُصلِحهُ الشّعر».
جورجيف: «كانَ يطلبُ إلى أحدِ طلابِهِ الوُقوفَ على ساقٍ واحِدَةٍ دقيقة، ساعةً يومًا!

تجدرُ الإشارةُ إلى أنّ رجلاً في الثّمانينَ من عمرِهِ، كان يمشي مكسورَ الظَّهر، جعلَتْهُ تَدريبات جورجيف، أن يقف جالِسَ الظَّهر، يقف على ساقٍ واحدةٍ عشرينَ ساعَةً دونَ أن يهتزّ!.جورجيف كانَ يدرّب تلامذته على أنواعٍ من الرّقصِ بِهدَفِ القُدرَةِ عَلى الاِحتِمال.
منَ الرَّقصاتِ الّتي كانَ يلقِّنُها لتلامذتِهِ: «رقصةُ الدَراويش» الّتي هي أقربُ ما تكون إلى «أنوار» أو «الذِكر»، والغرضُ منها: نفضُ الإنسان التُّرابَ والصَّدأَ عن كيانِهِ، فيُؤهِّلَ للانفتاح على قِواه الخَفيَّة.
ما يقومُ به جورجيف هو البثُّ في طلابِهِ الشرارَةَ الأولى، ثمّ يترُكهم يَتحرَّكون ويستعينونَ بقدراتِهِم الفَرديَّة.
جورجيف يؤكّد: «أنَّ في داخلِ كلِّ إنسانٍ طاقَةً احتياطيَّةً هائِلَةً ورسالتي أن أُنَبّه النُّفوسَ إلى استخدامِها، ذلك أنّي من القلائلِ المُدّخرين من الاحتياطي الكَوْني لأهبَها إلى الآخرين». ففي الكَوْن كلّه طاقةٌ هائلَةٌ، وليس في مقدورِ الإنسانِ أن يتزوَّد مِنها بِما يَحتاجُهُ بلا مساعدة.
… اللاّفِتُ، أنَّ واحدًا من طلاّبهِ ظلَّ يعملُ من الصّباح حتّى ساعةٍ مُتأخِّرة من اللَّيلِ، دونَ أن يشعُرَ بجوعٍ أو عطشٍ، أو تعَبٍ؟ تفسيرُ ذلك، أنّهُ أيقَظَ قوَّته الخفيّة، فراحت تعملُ بلا هوادةٍ أو مللٍ!

جورجيف يَروي:
«لي جارةٌ، لم أفكِّرُ فيها قطّ، فجأةً أحسسْتُ بقلبي يتحرَّكُ نحوَها. ثمَّ وَجدْتُني أتَّجه إلى بابِها وأضَع يدي على الجرَس.
«في اللّحظةِ الّتي قرعتُ بابِها، خرجَت الجارةُ الجميلةُ، ولمّا لم أجد ما أقولَهُ، بادَرَتْني قائلةً: « أنا أعرِفُ لماذا جِئتَ! جئتَ لتقولَ لي: إنّكَ تُحِبَّني… أليسَ كذلك؟».

ما الّذي حدث؟
حدَثَ أنّ المتصوِّف قد نقلَ أفكاره إلى عقلِ الجارةِ، جعَلها تفتحُ الباب، وتُعبِّرَ لهُ عمّا يُخالِجهُ نحوَها!
بيتر أوسبنكي: أحد تلامذةِ جورجيف، كان أديبًا وفيلسوفًا، وقد روى كيفَ أنّ أستاذَهُ كان قادرًا أن يعرِفَ بالضّبطِ ما الّذي يَجري؟
أوسبنكي: من أعظمٍ تلامذتهٍ وأقدرهم عَلى الكِتابةِ الجَميلةِ. روى لدى بلوغِه الأربعين من عمرِه أنّه: «فجأةً، هبَّت عاصِفَةٌ، أضاءتْ الدُّنيا. في مهبِّ العاصفةِ، وضوئِها الباهرِ، وقَعَتُ كأنَّني شجرةٌ. اكتشفتُ أنَّ شيئًا قد ضربَ قَلبي فانفتح لأرى الفتاةَ الّتي أحببتُها حتّى الموت!
«حُبُّها قَدَري، وأدينُ لها بكلِّ القصائِدِ الّتي كتبتُها، وقد طلبتُ مِنها نَشرهَا بعدَ وفاتي، إمعانًا في تَعذيبي لِنَفسي».
«عَلى ضوءِ النّارِ في أحشائي كتبتُ وعلى وَهْجِ الوِجْدانِ في جَوارحي، سجَّلْتُ اعترَفاتي».
…على فِراشِ المَوْت:
جاءَ الخوري يطلبُ إلى أوسبنكي أن يَعترِفَ.
• سأَلهُ إن كانَ ضَروريًّا؟
• هزَّ الخوري رأسَهُ، أنَّهُ ضَروريٌّ.
• أسرَّ أوسبنسكي قائِلاً: لقد أحببتُ.
• مَن؟
• فلانَة.
الغريب، أنّ  فلانةَ قد أسلمَت روحَها في تلكَ اللَّحظةِ، ولَم يعرف أوسبنسكي باﻷمر، ﻷنَّه لم يكُن بينَهُما صِلَةٌ!
بالعودةِ إلى المعلّم المتصوّف جورجيف:
توفّي في باريس عام ١٩٤٩، ولم يترك وراءَه كتاباتٍ، وإنّما تركَ لتلامذتِهِ أن يكتبوا ما قالَهُ لَهُم، مافعلهُ لَهُم ولغيرِهم من النّاس .